قصة حالة رقم ١٤

بالأمس رحلت… وفي تمام الساعة السابعة مساء حضر ثلة من المحبين لا يتجاوزون الثمانية رجال وضعوني مسجى أمامهم ثم أقاموا الصلاة علي في زاوية من المقبرة .. ذرفوا دموعا شعرت بها… وضعوني في قبري ثم رحلوا…كنت وحيدا هناك في المساء..
لم يعبر جسدي أمام حشود المصلين في جامع.. لم يقل الإمام الصلاة على رجل.. لا جنائز الآن تعبر الجوامع…
هكذا رحلت وحيدا.. إلا من رسالة تعبر الجوالات.. رحل أبي والصلاة عليه في المقبرة.
كانت لدي أحلام ولدي أشياء لم تنتهي بعد..

قبل أسابيع سمعت عن الحجر المنزلي.. قيل لي أنت المعرّض الأكبر للخطر… اجلس في بيتك.. ابتعد عن كل ما قد يجلب لك الفيروس…
جلست.. اعتزلت… كانت الحياة تمر أمام عيني جميلة بذكرياتها.. بالصغار الذين يكبرون… بأمكم التي رافقتني حبا أكثر من أربعين عاما.. نجلس وحيدين كل صباح.. نعيد ذكريات الصبا وأيام لا نخشى على الحب ناهيا..
أشاهد شجيرات البيت التي أسقيها كل يوم..النخيل الباسقات.. مقبض الباب الذي مرت أيام دون أن أضع يدي عليه.. الشارع الذي كان يجمع حكايات الجيران…
قيل لي لا تخرج أنت المعرّض الأكبر للخطر.. وبقيت.. ألعب بفرح مع الصغار داخل البيت.. فوزهم فوزي.. وفوزي خسارتي إذ لا أريد أن أرى حسرة الهزيمة على وجه صغير.. الهزائم لا تليق بالأطفال.. لعبنا… سهرنا… ضحكنا…

ذات مساء لم أعرف أن الموت قد يصافحك من يد أقرب الناس لك.. اليد التي لطالما تشبثت بك صغيرة قبل أن تكبر ولطالما قبلتها وحضنتها قبل أن ينام..
لم أدرك أنها يد الموت.. وكيف للموت أن يتدثر بيد كنت تنتظر أن تكون عكازك في الملمات الصعبة…
اقتربَ مني.. ” صباح الخير يا أبي..” صافحني ثم قبلني ومدّ فنجان القهوة… كان ملك الموت ينتقل من يده ليدي… من قبلته لرأسي.. من فنجانه لشفتي.. هكذا جاء الموت بلباس الأقرباء وأنا الذي انتظرته طول عمري غريبا شاحبا…
لم يدرك صغيري أنه أشرع قلبي للزائر الجديد وكان الوسيط.. وأعرف أنه لو استطاع لا فتداني بروحه… بالمناسبة هو في هذه اللحظة منزو في البيت يبكي على رحيلي..
بقلبه المتطلع للحياة.. لم يستطع أن يقاوم رغبته في الخروج لأصدقائه.. للمكان الذي يحبه.. هناك التقط الفيروس العاشق للأماكن الجديدة والكفوف الجديدة والوجوه الجديدة…
جاء به ضيفا ثقيلا للبيت.. ضرب خيامه في كل زاوية…أنا الآن أول الراحلين عن هذه الحياة.. ولا أدري لربما تلحق بي حبيبتي ورفيقة عمري..
هي الأخرى الآن تقاوم تعبها.

ولدي حبيبي يجب أن أخبرك أنني لا أزال أحبك وتظل أقرب الناس لي وكم وددت ألا يكون رحيلي رقما عابرا.. وألا يواريني فقط هذا العدد البسيط الخائف.. موجع أن يجتمع على قلوبهم الحزن والخوف.
أحبك حتى لو لم تأخذ بوصيتي يوم رجوتك ألا تخرج من البيت كنت أخاف عليك أكثر.. أعرف كيف يأتي الموت.. السنوات الطويلة أخبرتني كيف يختبئ لك في أكثر الأماكن أمانا.. أحبك حتى وأنت تملأ كلماتك ثقة وتقول لا تخف يا أبي هؤلاء أصدقاء وأثق بهم..وأعرف كيف أهرب من هذا الفيروس الذي ملأ العالم.. لم أستطع أن أمنعك.. دائما توجعني ردات فعلك وتعابير وجهك.. أتحمل خوفي على أن تحزن..
أحبك حتى وأنت تحثو التراب على رجل لطالما مسح التراب عن شعرك وأعرف أنه لا مفر لك من ذلك…
أحبك حتى ولو كان رحيلي على يديك…
وداعا حبيبي وكل الذي أوصيك به أن تهتم أكثر بأخواتك وأمك إن نجت… وهذه المرة آمرك ألا تخرج من البيت.. لأني لن أرى تعابير وجهك تلك التي تتعبني…

ودائما أحبك.

التوقيع
والدك أو رقم ١٤

بتاريخ
وسوم
شارك
Share on twitter
تويتر
Share on facebook
فيسيوك
Share on telegram
تلغرام
Share on whatsapp
واتساب
التكامل الرائع بين الجهات الحكومية في هذه الأزمة خلفه قائد فذ، يعمل بلا كلل ولا ملل، استطاع خلق فريق متناغم يعمل باحترافية عالية، همه الأول هو المواطن
توفيق الربيعة
وزير الصحة

تابعنا على

المعلومات الواردة في هذا الموقع
موثقة من قبل وزارة الصحة السعودية.
Share on twitter
Share on facebook
Share on whatsapp
Share on telegram

من خلال النقر على أي رابط في هذه الصفحة ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا

نستعمل ملفات Cookies الخاصة بك، لفهم طريقة تصفحك للموقع وكذا تعزيز تجربة الاستخدام بشكل عام